بسم الله الرحن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، أما بعد ..
فهذا موضوع عن عالم الجان ، جمعت فيه ما جاء عن الجان وعالمهم وخلق الله لهم وما وصفهم به ومن اهتدى منهم ومن ضل سواء السبيل ، ومن حذرنا الله من غوايته وعداوته لنا ألا وهو الشيطان الرجيم الذي ينصب حبائله فلا يصطاد بها إلا الغاوين الذين مآلهم معه إلى العذاب الذي لا ينقضي في طبقات جهنم ودركاتها . جمعت فيه ما جاء في ذلك في القرآن والسنة ، متحرياً فيه الثابت الصحيح ، إضافة إلى بعض المراجع التي بين يدي وبعض المراجع عن طريق الشبكة العنكبوتية ، وللأمانة العلمية ذكرت المصادر في نهاية هذا البحث .
ثم اعلم أخي القارئ أن هذا الموضوع قابل للشحن بالغث والسمين ، والإثارة والتهويل ، ولو انجرفت خلف ما وقع تحت يدي من مراجع لخرجت بكتاب تعجز عن حمله الأيدي ، لكن للأسف الشديد أغلب ماكتب فيها لا يستند إلى دليل صحيح من كتاب أو سنة . فتحاشيت كثيراً من المواضيع حتى خرجت بهذا البحث المتواضع . هادفاً من وراء ذلك أن ننال عفو الله وغفرانه بإيضاحنا لأبناء جيلنا من المسلمين والمؤمنين أحوال هذا العالم الغيبي ، والحذر منه ومن اتباعه ، وتجنب أذاه وشروره .
نفعني وإياكم بما علَّمنا وهداني وإياكم لما فيه خير دنيانا وآخرتنا وغفر لنا ولكم ولوالدينا ووالديكم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنه سميع قريب مجيب الدعوات .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الجن في لغة العرب :
قال أبو عمر بن عبد البر : الجن عند أهل الكلام والعلم باللسان منزلون علي مراتب :فإذا ذكروا الجن خالصا – يعني بصفة عامة- قالوا: جني .. فان أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس قالوا: عامر والجمع : عمار وعوامر..فان كان ممن يعرض للصبيان قالوا :أرواح .. فان خبث وتعزم فهو شيطان .. فان زاد علي ذلك فهو :مارد .. فان زاد علي ذلك وقوي أمره قالوا : عفريت والجمع :عفاريت والله اعلم بالصواب .
تعريف الجن :
الجن في نظر المسلمين أجسام هوائية أو نارية ، عاقلة خفية ، تتشكل بأشكال مختلفة ، ولها قدرة على الأعمال الشاقة . ( دائرة المعارف الإسلامية (.
تعريف آخر :
الجن نوع من المخلوقات ذات أجسام وأرواح ، وهي عاقلة مدركة مريدة مكلفة على نحو ما عليه الإنسان ، خلقوا من مادة أصلها مارج النار وهو خالصه وأحسنه ، وطبيعة خلقتهم لها ماهية لا يعلم كنهها وكيفيتها إلا الله ، مستترون عن الحواس في أصل خلقتهم ، لا يُرون على طبيعتهم ولا بصورتهم الحقيقية ، ولهم قدرة على التمثل وعلى التشكل ، يأكلون ويشربون ويتناكحون ويتناسلون وهم محاسبون على أعمالهم في الآخرة وأجسام الجن قد تكون كثيفة وقد تكون رقيقة وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة ، ولعالم الجن ناموسهم أي قانونهم ونظامهم الذي يعيشون ويموتون ويتنقلون بموجبه .
( الشيخ أبو البراء ) .
لماذا سميت الجن بهذا الاسم ؟
كلمة الجن مشتقة من جن الشيء أي ستره ، وكل شيء ستر عنك فقد جن عنك ، وجن عليه الليل أي ستره الظلام ، والجنين هو الطفل في بطن أمه ، لأنه مستور عن الرؤية ، والجنان هو القلب الذي يستره فلا يراه أحد ، والجنون هو ستر العقل أي ذهب عقله واختفى ، والجن نوع من العوالم ، وسموا بذلك لاجتنابهم أي اختفائهم عن الأبصار ، لذلك نحن لا نراهم ، قال تعالى : " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " .
هل فعلاً الجن موجودون أم أنه خرافة لا أساس لها ؟
أثبت القرآن الكريم في مواضع متعددة وجود عالم الجن، فوجب الإيمان بوجود الجن إيماناً جازماً.
قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (الذاريات: 56-57. (
وقال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ)) الرحمن(33.
وقال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الأحقاف: 29-31. (
الواجب علينا أن نؤمن بالجن بأنهم عالم حقيقي ليس وهمياً تخيلياً ولا نفساً بشرية شريرة،وليس هو من البشرية الخبيثة، ولا من نوع الجراثيم الميكروبية الضارة، فإن جميع هذه الأوهام والأفهام حَوْل الجن هي تحريف لكلام الله عن معانيه المرادة منه، وصرف له عن الوجه المخبَر عنه إلى وجه آخر هو في معزل عنه، وإنما الجن عالم غيبي حقيقي الوجود له شأنه وأحكامه.
هل يختلف عالم الجن عن عالم الملائكة والإنس ؟
عالم الجن يختلف اختلافا كليا عن عالم الملائكـة و الإنسان ، فكل له مادتـه التي خلـق منها ، وصفاته التي يختلف بها عن الآخر، إلا أن عالم الجن يرتبط مع عالم الإنس من حيـث صفـة الإدراك وصفة العقل والقدرة علـى اختيار طريق الخير والشر. وأبو الجن هو إبليس كما أن أبو الإنسان آدم عليـه السلام . أما طبيعـة خلقتهم فقد أخبرنا الله عز وجل عنهم أنه خلقهم من نار، كما قال تعالـى (والجـان خلقناهـم من قبل من نار السموم ) وقوله عز وجل ( وخلق الجان من ما رج من نار) . وقد فسر أهل العلم من السلف الصالح قوله ( مارج من نار) هـو طرف اللهب ومنهــم ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والحسن وغيره ، وقال النـووي " المارج اللهب المختلط بسواد النار " . أما الإنسان فقد خلق من طين كما أخبرنا عـز وجل بقولـه ( قـال مـا منعك ألا تسـجد إذ أمـرتك قـال أنا خيـر منـه خلقتـني مـن نـار وخلقـته من طين) وفـي قـوله سبحانه (فاستفتهم أهم أشـد خلقـاً أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب ) وكذلك كما ورد فـي الحديث الذي أخرجـه مسـلم عـن عائشة ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قـال : " خلقـت الملائكة من نـور، وخلـق الجان من مارج من نار، وخلق أدم مما وصف لكم ". وقد خلـق الجان قبـل الإنسان وسكن الأرض قبله ، بدليـل قـول الله عـز وجل( ولقد خلقنـا الإنسان مـن حمـأ مسنون *والجان خلقناه من قبل من نار السموم .
من خُلِقَ أولاً الجن أم الأنس ؟
الجن مخلوقون قبل الإنسان:
قال الله تعالى: " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ" ( الحجر: 26-27) .
قال تعالى: " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا " (الكهف: 50.
ففي أمر سجود إبليس - الذي هو من الجن - لآدم عليه السلام دلالة واضحة على أن الجن مخلوقون قبل آدم وهو الإنسان الأول .
هل الجن مكلفون ؟
نعم الجن مكلفون كسائر خلق الله ولذلك فمنهم المؤمن ومنهم غير المؤمن ومنهم الطائع ومنهم العاصي وقد بين ذلك سبحانه وتعالى على لسانهم : " وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون " . وقد جاء على لسانهم أيضاً : " وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً " . وقد جاء صريحا بتكليف الله لهم في قوله تعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " . فهذه الآيات فيها دليل على أن الجن مكلفون كالإنس ومخاطبون كالإنس ، بل وهناك من الآيات مايشير إلى أن لهم رسلاً منهم كالإنس تماماً بتمام . قال تعالى : " يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كافرين " . الأنعام : 130 .
هذا ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل إلى الجن كما أرسل إلى الإنس ، فمنهم من سمع القرآن فآمن به ، فقال تعالى : " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً " . ويحدثنا عبدالله بن عباس – رضي الله عنهما – عن سبب نزول هذه الآيات فيقول رضي الله عنه " انطلق النبي صلى اللهم عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم فقالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى اللهم عليه وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهنالك حين رجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) فأنزل الله على نبيه صلى اللهم عليه وسلم ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) وإنما أوحي إليه قول الجن " . رواه البخاري .
إلى غير ذلك من الأحاديث والآيات التي تدل على أن الجن مكلفون كما الإنس تماماً .