قد يسوء ظن المرء بربه، وقد يسوء ظنه بنفسه، وقد يسوء ظن المرء بالناس، فيشك في نواياهم ويؤول أقوالهم وأعمالهم"
سوء الظن هو الاتهام بغير دليل أو كما قال البعض: هو غيبة القلب، يُحَدث نفسه عن أخيه بما ليس فيه، وقيل:
اعتقاد جانب الشر وترجيحه على جانب الخير فيما يحتمِلُ الأمرين معاً.
وقد يسوء ظن المرء بربه، وقد يسوء ظنه بنفسه، وقد يسوء ظن المرء بالناس، فيشك في نواياهم ويؤول أقوالهم وأعمالهم.
فقد
يكون في معدن بعض الناس خِسَّةٌ ونقص في المروءة وسقوط في الهمة وإفلاس من
الخير ومرض في القلب، فيجتمع كل ذلك، مع تسويف في توبته لربه وسوء في
طويته، فينصِبُ الواحد منهم نفسه رقيبا على الناس يقيس المسلمين بمقاييس
السوء الدائم، فلا يرى إلا المنكر أينما ولى وجهه!!
رؤية الشريعة لسوء الظن
قال
الله _سبحانه_: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا
مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا
يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ
أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}
و قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_
: "إياكم والظنَّ، فإن الظن أكذبُ الحديث. ولا تَحَسَّسُوا، ولا
تَجَسَّسُوا، ولا تنافسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا. وكونوا عباد الله
إخوانا كما أمركم. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذُله ولا يحقِره.
التقوى ههنا -ويشير إلى صدره- بِحَسْبِ امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.
كل المسلم على المسلم حرام. دمه وعرضُه ومالُهُ. إن الله لا ينظر إلى
أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". رواه الشيخان عن
أبي هريرة _رضي الله عنه_.
وجاءه رجل يقول: "إن امرأتي ولدت
غلامًا أسود. فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: هل لك من إبل؟ قال: نعم.
قال: فما ألوانها؟ قال: حُمْرُ. قال: هل فيها من أورق؟ [يعني فيه سواد]
قال: إن فيها لأورقًا. قال: فأنى أتاها ذلك. قال: عسى أن يكون نزعه
عِرْقٌ. قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عِرْق"[رواه البخاري ومسلم واللفظ له].
وفي
الحديث: "إذا سمعتم الرجل يقول: هلك الناس، فهو أهلكهم" رواه مسلم، (إما
بفتح الكاف "فهو أهْلكَهم" على أنه فعل ماض، أي: كان سببا في هلاكهم بفعله
وسوء ظنه، وإما بضم الكاف "فهو أهلكُهم"، أي أشدهم وأسرعهم هلاكا).
وأما
السلف الصالحون فقد نأوا بأنفسهم عن هذا الخلق الذميم، فتراهم يلتمسون
الأعذار للمسلمين، حتى قال بعضهم: إني لألتمس لأخي المعاذير من عذر إلى
سبعين، ثم أقول: لعل له عذرًا لا أعرفه... وقد قال العلماء: أن كل من
رأيته سيئ الظن بالناس طالبًا لإظهار معايبهم فاعلم أن ذلك لخبث باطنه،
وسوء طويته؛ فإن المؤمن يطلب المعاذير لسلامة باطنه، والمنافق يطلب العيوب
لخبث باطنه..، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تظن بكلمة خرجت من
أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً..
وحكم الله
فيمن يسيء الظن بالناس نجده في قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ } فمثلاً: إذا أسأت الظن بأهلك في البيت، فقد يُؤدي ذلك
إلى اتهامهم بما هم منه براء، وقد يؤدي ذلك إلى إفساد الأسر والمجتمعات،
وإذا أسأت الظن بطلابك دفعتهم إلى الريبة وأفسدت نياتهم وإخلاصهم، وإذا
أسأت الظن بجارك كان ذلك مدعاة إلى قطع العلاقة بينك وبينه، وهكذا.
قال
الإمام ابن حجر: سوء الظن بالمسلم من الكبائر الباطنة وقال: وهذه الكبائر
مما يجب على المكلف معرفتها ليعالج زوالها لأن من كان في قلبه مرض منها لم
يلق الله _ والعياذ بالله _ بقلب سليم، وهذه الكبائر يذم العبد عليها أعظم
مما يذم على الزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوها من كبائر البدن؛ وذلك لعظم
مفسدتها، وسوء أثرها ودوامه إذ إن آثار هذه الكبائر ونحوها تدوم بحيث تصير
حالاً وهيئة راسخة في القلب، بخلاف آثار معاصي الجوارح فإنها سريعة
الزوال، تزول بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، وقال ابن قدامه: فليس
لك أن تظن بالمسلم شراً، إلا إذا انكشف أمراً لا يحتمل التأويل
وسوء الظن نوعان:
1-
سوء الظن بالله: وهو أعظم إثمًا وجرمًا قال _تعالى_: {يَظُنُّونَ
بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [سورة آل عمران:
آية 154]، وقال _تعالى_ في المنافقين: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ
السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
2-
سوء الظن بالمسلمين: وهو أيضًا من الكبائر، فمن حكم على غيره من المسلمين
بشر بمجرد الظن وحده حمله الشيطان على احتقاره وعدم القيام بحقوقه وإطالة
اللسان في عرضه والتجسس عليه.
وأما سوء الظن بأهل
الفجور ومشيعي الفواحش والفتن والضلالات, مع وجود الدليل والبرهان، فهذا
لا يدخل في الظن السيئ، بل في الحذر المطلوب والحرص على مصالح المسلمين.
وهنا
لفتة مهمة إذ يقول الإمام الحسن البصري "إن قوما ألهتهم الأماني حتى ماتوا
ولم يعملوا حسنة ويقول أحدهم أنا أحسن الظن بربي, وقد كذبوا، فلو أحسنوا
الظن لأحسنوا العمل" فمن كان صادقاً في ظنه بربه أن يدخله جنته فعليه
بالإيمان والعمل الصالح.
أسباب سوء الظن
إن
أهم أسباب سوء الظن هي ما يفعله الشيطان من تسويل في قلب المسلم فيدفعه
إلى سوء ظنه، مع وجود جبن وضعف في نفس سيء الظن إذ تذعن نفسه لكل فكر فاسد
يدخل في وهمه، كذلك فإن العجب بالنفس والفرح بزينتها من أهم أسبابه، قال
بعض الصالحين: «ويلكم عبيد السوء ترون القذى في أعين غيركم ولا ترون الجذع
في أعينكم»، إنّ من يستعظم نفسه وعمله ويرى في ذاته ومناهجه الكمال ويرى
نفسه فوق الآخرين يستفزّه أن يسبقه أخوه إلى عمل خير أو أن يسمع الناس
يمتدحون منافسه، كذلك فإن لخبث الباطن وسوء الطوية أثر كبير في إنبات سوء
الظن، فإنّ من تعوّد على الحيلة والمكر والخديعة يتصوّر الآخرين كذلك ومن
كانت كلماته سلسلة من الأكاذيب لا يستطيع أن يرى غير الكذب في كلمات
الآخرين، كذلك فإن أحكام التعميم منبتة لسوء الظن, فقد يصطدم المرء بحقيقة
مرّة يكتشفها فجأة في صديق، أو عالم، أو عامل فيفقد ثقته بكل الأصدقاء
والعلماء والعاملين، إن ذلك يعد من أكبر السقطات ومن أكبر عوامل سوء
الظن... فتدبر.
رؤية ناقصة وشر مستطير
إن
المؤمن حَسَن الظن بالله وبعباد الله فهو "غر كريم والفاجر خَبٌّ لئيم"
كما في حديث أبي داود والترمذي وغيرهما بإسناد حسن عن أبي هريرة، لكنَّ
المؤمن يُحسن الظَّن أولاً، ثم إذا بدا من أحد بادرةُ سوء كان منه على
حذر، ولكننا نجد أقوما جعلوا الأصل عندهم هو الاتهام، والأصل في الاتهام
الإدانة، خلافا لما قررته القواعد أن المتهم بريء مادام لا دليل على
إدانته.
فالأصل في المسلم العدالة والاستقامة، ما لم يظهر
فسقاً وعصياناً أو بدعة في دينه، فإذا كان المسلم مستور الحال ولم يظهر
منه فساد أو معصية فسوء الظن به حرام _كما بينا_.
هذا مع
أن المسلم لا يغتر بعمله أبداً، ويخشى أن يكون فيه من الدَّخَل والخلل ما
يحول دون قبوله وهو لا يدري، والقرآن يصف المؤمنين السابقين بالخيرات،
فيقول في أوصافهم: "والذين يُؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلةٌ أنّهم إلى ربِّهم
راجعون" (المؤمنون: 60)، وقد ورد في الحديث أن هذه الآية فيمن عمل
الصالحات، ويخاف ألاّ يقبل الله منه.
.. ثم إن المحسن الظن
بإخوانه، الذي يلتمس لهم المعاذير، ويحملهم على أحسن المحامل يعيش في راحة
بال، واطمئنان نفس، والعكس صحيح، فإن المسيء الظن بالناس يعيش في شؤم
وتعاسة وإن أظهر خلاف ذلك.
وتجد مرضى القلوب بذلك الداء دائماً
يسارعون إلى سوء الظن والاتهام لأدنى سبب، فلا يلتمسون المعاذير للآخرين،
بل يفتشون عن العيوب، ويتصيدون الأخطاء، ويجعلون من الخطأ خطيئة.
وإذا
كان هناك قول أو فعل يحتمل وجهين: وجه خير وهداية، ووجه شر, رجحوا احتمال
الشر على احتمال الخير، خلافا لما أثر عن علماء الأمة من أن الأصل حمل حال
المسلم على الصلاح، والعمل على تصحيح أقواله وتصرفاته بقدر الإمكان، وقد
كان بعض السلف يقول: إنّي لألتمس لأخي المعاذير ثم أقول: لعلّ له عذراً
آخر لا أعرفه!
إن آفة هؤلاء هي سوء الظن، ولو رجعوا إلى
القرآن والسنة لوجدوا فيهما ما يغرس في نفس المسلم حسن الظن بعباد الله،
فإذا وجد عيبا ستره ليستره الله في الدنيا والآخرة، وإذا وجد حسنة أظهرها
وأذاعها، ولا تنسيه سيئة رآها في مسلم حسناته الأخرى، ما يعلم منها وما لا
يعلم.
إن حسن الظن يؤدي إلى سلامة الصدر وتدعيم روابط
الألفة والمحبة بين أبناء المجتمع، فلا تحمل الصدور غلاًّ ولا حقدًا، وقد
أوجب الإسلام على المسلم أن يحسن الظن بإخوانه المسلمين، فلا يحل لأحد
منهم أن يتهم غيره بفحش أو ينسب إليه الفجور أو يسند إليه الإخلال بالواجب
أو النقص في الدين أو المروءة، أو أي فعل من شأنه أن ينقص من قدره أو يحط
من مكانته، بل قد أمر الله بالتثبت؛ ونهى عن تصديق الوهم والأخذ بالحدس
والظن، فقال: "ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك
كان عنه مسؤولا".
نظرة للعلاج
إن
أول خطوات العلاج أن يتذكر حكم الإسلام في مثل هذه الحالات، وما أمر به من
حمل أمور الناس على البراءة الأصلية وعدم المسارعة إلى التأويلات السيئة
ويتذكر ما نهى عنه من سوء الظن بالله وبالناس، وإلى جانب السيطرة على
الشعور الباطن بالحوار الداخلي وتذكير النفس بالله وبأحكام الشرع الحنيف
عليه أن يتحكم في الانحرافات الباطنة والظاهرة التي يفضي إليها سوء الظن
مثل الحسد والحقد والغيبة والتجسس، قال ابن قدامه : متى خطر لك خاطر سوء
على مسلم، فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير، فإن ذلك يغيض
الشيطان ويدفعه عنك. وإذا تحققت هفوة مسلم، فانصحه في السر.
وإذا رأى الإنسان من أخيه ما يستنكره فعليه أن يتأوله ـ ما وجد له في الخير مذهباً ـ.
وإذا
لم يجد باباً من التأويل ولا ما يدفع سوء الظن فليبادر إلى مواجهة المظنون
به، وليفاتحه بما ينسب إليه، فإما أن يعترف ويستمرئ ما هو عليه، وبذلك
يسلم من إثم الظن، لأن الظن لا يتحول إلى يقين فيكون ما ظنه حقاً فلا تكون
التهمة خالية من الدليل؛ وإما أن يحدث توبة ويستأنف حياة نظيفة فيكون ذلك
من أعظم الخير الذي أسداه إليه؛ وإما أن تظهر براءته، ويكون الظن قائماً
على غير أساس, فأسئ الظن بنفسك وأحسن الظن بالمؤمنين، واستكشف مواطن الخلل
والنقص في ذاتك فـ«طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس».
كذلك
فإن من سبل العلاج أن تتعامل مع المرض تعاملاً عكسياً بمعنى أنك إذا خالجك
سوء الظن بأحد فابحث له عن صفات الخير التي فيه وذكر نفسك بها وتفقد سمات
الصلاح التي به والزم فكرك إياها، وإذا عرفت سقطة مسلم فانصحه في السِّر
ولا تبادر إلى اغتيابه وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور بإطلاعك على عيبه،
بل ينبغي أن يكون قصدك استخلاصه من الإثم وتكون محزوناً كما تحزن على نفسك
إذا دخل عليك ذنب.
وعليك كذلك أن تحاسب نفسك دائماً وتبتعد عن مواطن الثرثرة والنميمة وذكر عيوب الناس فإنها بيئة ينبت فيها سوء الظن
سوء الظن هو الاتهام بغير دليل أو كما قال البعض: هو غيبة القلب، يُحَدث نفسه عن أخيه بما ليس فيه، وقيل:
اعتقاد جانب الشر وترجيحه على جانب الخير فيما يحتمِلُ الأمرين معاً.
وقد يسوء ظن المرء بربه، وقد يسوء ظنه بنفسه، وقد يسوء ظن المرء بالناس، فيشك في نواياهم ويؤول أقوالهم وأعمالهم.
فقد
يكون في معدن بعض الناس خِسَّةٌ ونقص في المروءة وسقوط في الهمة وإفلاس من
الخير ومرض في القلب، فيجتمع كل ذلك، مع تسويف في توبته لربه وسوء في
طويته، فينصِبُ الواحد منهم نفسه رقيبا على الناس يقيس المسلمين بمقاييس
السوء الدائم، فلا يرى إلا المنكر أينما ولى وجهه!!
رؤية الشريعة لسوء الظن
قال
الله _سبحانه_: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا
مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا
يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ
أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}
و قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_
: "إياكم والظنَّ، فإن الظن أكذبُ الحديث. ولا تَحَسَّسُوا، ولا
تَجَسَّسُوا، ولا تنافسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا. وكونوا عباد الله
إخوانا كما أمركم. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذُله ولا يحقِره.
التقوى ههنا -ويشير إلى صدره- بِحَسْبِ امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.
كل المسلم على المسلم حرام. دمه وعرضُه ومالُهُ. إن الله لا ينظر إلى
أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". رواه الشيخان عن
أبي هريرة _رضي الله عنه_.
وجاءه رجل يقول: "إن امرأتي ولدت
غلامًا أسود. فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: هل لك من إبل؟ قال: نعم.
قال: فما ألوانها؟ قال: حُمْرُ. قال: هل فيها من أورق؟ [يعني فيه سواد]
قال: إن فيها لأورقًا. قال: فأنى أتاها ذلك. قال: عسى أن يكون نزعه
عِرْقٌ. قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عِرْق"[رواه البخاري ومسلم واللفظ له].
وفي
الحديث: "إذا سمعتم الرجل يقول: هلك الناس، فهو أهلكهم" رواه مسلم، (إما
بفتح الكاف "فهو أهْلكَهم" على أنه فعل ماض، أي: كان سببا في هلاكهم بفعله
وسوء ظنه، وإما بضم الكاف "فهو أهلكُهم"، أي أشدهم وأسرعهم هلاكا).
وأما
السلف الصالحون فقد نأوا بأنفسهم عن هذا الخلق الذميم، فتراهم يلتمسون
الأعذار للمسلمين، حتى قال بعضهم: إني لألتمس لأخي المعاذير من عذر إلى
سبعين، ثم أقول: لعل له عذرًا لا أعرفه... وقد قال العلماء: أن كل من
رأيته سيئ الظن بالناس طالبًا لإظهار معايبهم فاعلم أن ذلك لخبث باطنه،
وسوء طويته؛ فإن المؤمن يطلب المعاذير لسلامة باطنه، والمنافق يطلب العيوب
لخبث باطنه..، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تظن بكلمة خرجت من
أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً..
وحكم الله
فيمن يسيء الظن بالناس نجده في قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ } فمثلاً: إذا أسأت الظن بأهلك في البيت، فقد يُؤدي ذلك
إلى اتهامهم بما هم منه براء، وقد يؤدي ذلك إلى إفساد الأسر والمجتمعات،
وإذا أسأت الظن بطلابك دفعتهم إلى الريبة وأفسدت نياتهم وإخلاصهم، وإذا
أسأت الظن بجارك كان ذلك مدعاة إلى قطع العلاقة بينك وبينه، وهكذا.
قال
الإمام ابن حجر: سوء الظن بالمسلم من الكبائر الباطنة وقال: وهذه الكبائر
مما يجب على المكلف معرفتها ليعالج زوالها لأن من كان في قلبه مرض منها لم
يلق الله _ والعياذ بالله _ بقلب سليم، وهذه الكبائر يذم العبد عليها أعظم
مما يذم على الزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوها من كبائر البدن؛ وذلك لعظم
مفسدتها، وسوء أثرها ودوامه إذ إن آثار هذه الكبائر ونحوها تدوم بحيث تصير
حالاً وهيئة راسخة في القلب، بخلاف آثار معاصي الجوارح فإنها سريعة
الزوال، تزول بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، وقال ابن قدامه: فليس
لك أن تظن بالمسلم شراً، إلا إذا انكشف أمراً لا يحتمل التأويل
وسوء الظن نوعان:
1-
سوء الظن بالله: وهو أعظم إثمًا وجرمًا قال _تعالى_: {يَظُنُّونَ
بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [سورة آل عمران:
آية 154]، وقال _تعالى_ في المنافقين: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ
السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
2-
سوء الظن بالمسلمين: وهو أيضًا من الكبائر، فمن حكم على غيره من المسلمين
بشر بمجرد الظن وحده حمله الشيطان على احتقاره وعدم القيام بحقوقه وإطالة
اللسان في عرضه والتجسس عليه.
وأما سوء الظن بأهل
الفجور ومشيعي الفواحش والفتن والضلالات, مع وجود الدليل والبرهان، فهذا
لا يدخل في الظن السيئ، بل في الحذر المطلوب والحرص على مصالح المسلمين.
وهنا
لفتة مهمة إذ يقول الإمام الحسن البصري "إن قوما ألهتهم الأماني حتى ماتوا
ولم يعملوا حسنة ويقول أحدهم أنا أحسن الظن بربي, وقد كذبوا، فلو أحسنوا
الظن لأحسنوا العمل" فمن كان صادقاً في ظنه بربه أن يدخله جنته فعليه
بالإيمان والعمل الصالح.
أسباب سوء الظن
إن
أهم أسباب سوء الظن هي ما يفعله الشيطان من تسويل في قلب المسلم فيدفعه
إلى سوء ظنه، مع وجود جبن وضعف في نفس سيء الظن إذ تذعن نفسه لكل فكر فاسد
يدخل في وهمه، كذلك فإن العجب بالنفس والفرح بزينتها من أهم أسبابه، قال
بعض الصالحين: «ويلكم عبيد السوء ترون القذى في أعين غيركم ولا ترون الجذع
في أعينكم»، إنّ من يستعظم نفسه وعمله ويرى في ذاته ومناهجه الكمال ويرى
نفسه فوق الآخرين يستفزّه أن يسبقه أخوه إلى عمل خير أو أن يسمع الناس
يمتدحون منافسه، كذلك فإن لخبث الباطن وسوء الطوية أثر كبير في إنبات سوء
الظن، فإنّ من تعوّد على الحيلة والمكر والخديعة يتصوّر الآخرين كذلك ومن
كانت كلماته سلسلة من الأكاذيب لا يستطيع أن يرى غير الكذب في كلمات
الآخرين، كذلك فإن أحكام التعميم منبتة لسوء الظن, فقد يصطدم المرء بحقيقة
مرّة يكتشفها فجأة في صديق، أو عالم، أو عامل فيفقد ثقته بكل الأصدقاء
والعلماء والعاملين، إن ذلك يعد من أكبر السقطات ومن أكبر عوامل سوء
الظن... فتدبر.
رؤية ناقصة وشر مستطير
إن
المؤمن حَسَن الظن بالله وبعباد الله فهو "غر كريم والفاجر خَبٌّ لئيم"
كما في حديث أبي داود والترمذي وغيرهما بإسناد حسن عن أبي هريرة، لكنَّ
المؤمن يُحسن الظَّن أولاً، ثم إذا بدا من أحد بادرةُ سوء كان منه على
حذر، ولكننا نجد أقوما جعلوا الأصل عندهم هو الاتهام، والأصل في الاتهام
الإدانة، خلافا لما قررته القواعد أن المتهم بريء مادام لا دليل على
إدانته.
فالأصل في المسلم العدالة والاستقامة، ما لم يظهر
فسقاً وعصياناً أو بدعة في دينه، فإذا كان المسلم مستور الحال ولم يظهر
منه فساد أو معصية فسوء الظن به حرام _كما بينا_.
هذا مع
أن المسلم لا يغتر بعمله أبداً، ويخشى أن يكون فيه من الدَّخَل والخلل ما
يحول دون قبوله وهو لا يدري، والقرآن يصف المؤمنين السابقين بالخيرات،
فيقول في أوصافهم: "والذين يُؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلةٌ أنّهم إلى ربِّهم
راجعون" (المؤمنون: 60)، وقد ورد في الحديث أن هذه الآية فيمن عمل
الصالحات، ويخاف ألاّ يقبل الله منه.
.. ثم إن المحسن الظن
بإخوانه، الذي يلتمس لهم المعاذير، ويحملهم على أحسن المحامل يعيش في راحة
بال، واطمئنان نفس، والعكس صحيح، فإن المسيء الظن بالناس يعيش في شؤم
وتعاسة وإن أظهر خلاف ذلك.
وتجد مرضى القلوب بذلك الداء دائماً
يسارعون إلى سوء الظن والاتهام لأدنى سبب، فلا يلتمسون المعاذير للآخرين،
بل يفتشون عن العيوب، ويتصيدون الأخطاء، ويجعلون من الخطأ خطيئة.
وإذا
كان هناك قول أو فعل يحتمل وجهين: وجه خير وهداية، ووجه شر, رجحوا احتمال
الشر على احتمال الخير، خلافا لما أثر عن علماء الأمة من أن الأصل حمل حال
المسلم على الصلاح، والعمل على تصحيح أقواله وتصرفاته بقدر الإمكان، وقد
كان بعض السلف يقول: إنّي لألتمس لأخي المعاذير ثم أقول: لعلّ له عذراً
آخر لا أعرفه!
إن آفة هؤلاء هي سوء الظن، ولو رجعوا إلى
القرآن والسنة لوجدوا فيهما ما يغرس في نفس المسلم حسن الظن بعباد الله،
فإذا وجد عيبا ستره ليستره الله في الدنيا والآخرة، وإذا وجد حسنة أظهرها
وأذاعها، ولا تنسيه سيئة رآها في مسلم حسناته الأخرى، ما يعلم منها وما لا
يعلم.
إن حسن الظن يؤدي إلى سلامة الصدر وتدعيم روابط
الألفة والمحبة بين أبناء المجتمع، فلا تحمل الصدور غلاًّ ولا حقدًا، وقد
أوجب الإسلام على المسلم أن يحسن الظن بإخوانه المسلمين، فلا يحل لأحد
منهم أن يتهم غيره بفحش أو ينسب إليه الفجور أو يسند إليه الإخلال بالواجب
أو النقص في الدين أو المروءة، أو أي فعل من شأنه أن ينقص من قدره أو يحط
من مكانته، بل قد أمر الله بالتثبت؛ ونهى عن تصديق الوهم والأخذ بالحدس
والظن، فقال: "ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك
كان عنه مسؤولا".
نظرة للعلاج
إن
أول خطوات العلاج أن يتذكر حكم الإسلام في مثل هذه الحالات، وما أمر به من
حمل أمور الناس على البراءة الأصلية وعدم المسارعة إلى التأويلات السيئة
ويتذكر ما نهى عنه من سوء الظن بالله وبالناس، وإلى جانب السيطرة على
الشعور الباطن بالحوار الداخلي وتذكير النفس بالله وبأحكام الشرع الحنيف
عليه أن يتحكم في الانحرافات الباطنة والظاهرة التي يفضي إليها سوء الظن
مثل الحسد والحقد والغيبة والتجسس، قال ابن قدامه : متى خطر لك خاطر سوء
على مسلم، فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير، فإن ذلك يغيض
الشيطان ويدفعه عنك. وإذا تحققت هفوة مسلم، فانصحه في السر.
وإذا رأى الإنسان من أخيه ما يستنكره فعليه أن يتأوله ـ ما وجد له في الخير مذهباً ـ.
وإذا
لم يجد باباً من التأويل ولا ما يدفع سوء الظن فليبادر إلى مواجهة المظنون
به، وليفاتحه بما ينسب إليه، فإما أن يعترف ويستمرئ ما هو عليه، وبذلك
يسلم من إثم الظن، لأن الظن لا يتحول إلى يقين فيكون ما ظنه حقاً فلا تكون
التهمة خالية من الدليل؛ وإما أن يحدث توبة ويستأنف حياة نظيفة فيكون ذلك
من أعظم الخير الذي أسداه إليه؛ وإما أن تظهر براءته، ويكون الظن قائماً
على غير أساس, فأسئ الظن بنفسك وأحسن الظن بالمؤمنين، واستكشف مواطن الخلل
والنقص في ذاتك فـ«طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس».
كذلك
فإن من سبل العلاج أن تتعامل مع المرض تعاملاً عكسياً بمعنى أنك إذا خالجك
سوء الظن بأحد فابحث له عن صفات الخير التي فيه وذكر نفسك بها وتفقد سمات
الصلاح التي به والزم فكرك إياها، وإذا عرفت سقطة مسلم فانصحه في السِّر
ولا تبادر إلى اغتيابه وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور بإطلاعك على عيبه،
بل ينبغي أن يكون قصدك استخلاصه من الإثم وتكون محزوناً كما تحزن على نفسك
إذا دخل عليك ذنب.
وعليك كذلك أن تحاسب نفسك دائماً وتبتعد عن مواطن الثرثرة والنميمة وذكر عيوب الناس فإنها بيئة ينبت فيها سوء الظن