الازهر
الإتيان بالضمير العائد على المثنى مفردًا
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يُرضوه إن كانوا مؤمنين ) (1).
ذكروا هذه الآية ، ولفت نظرهم ذكر الله ، ثم ذكر رسوله معطوفاً عليه، ثم
إيقاع الفعل " يُرضى " على الضمير المفرد، وهو " الهاء " فى " يُرضوه "
وهو شاهدهم فى هذه الشبهة ، ثم قالوا:
" فلماذا لم يثنِّ الضمير العائد على الاثنين ، اسم الجلالة ورسوله فيقول: أن يُرضوهما " ؟!
الرد على الشبهة:
هذه الآية ، والتركيب الذى حسبوه أو عاندوا وقالوا إنه خطأ لغوى نحوى ، إنما هى لمحة قرآنية تتعلق بعقيدة توحيد الله عز وجل.
ومثيرو هذه الشبهات ، لا يعرفون عن حقيقة " التوحيد " شيئاً ، وضوابطهم فيه مثل الغربال إذا وضع فيه سائل لا يبقى فيه منه شىء.
وقد فات هؤلاء أمر عظيم ، ترتب عليه جهل شنيع ذلك أنهم لم يعرفوا أصلاً ،
أو لم يستحضروا فى أذهانهم وهم يسطرون هذه الشبهة ، متى يُثنَّى المعدود ،
ومتى يجمع ، ومتى يظل مفرداً.
وهى من البديهات ، بيان ذلك: أن هناك شرطاً موضوعيًّا فى تثنية المعدود وجمعه ذلك الشرط هو:
التجانس بين الأفراد فى الواقع ، فقَلَم يثنى فيقال: قلمان ويجمع فيقال أقلام.
لكن حماراً ـ مثلاً ـ لا يثنى مع القلم ولا يجمع ، لأنك لو ثنيت القلم
والحمار ، فقلت قلمان ، أو حماران ، وأنت تريد قلماً وحماراً لم يفهم أحدٌ
من العقلاء ما تريد.
وحتى الرجل والمرأة ، وهما فردان بينهما تجانس من جهة ، واختلاف من جهة
أخرى. فإنك لا تستطيع أن تثنيهما فتقول: رجلان ، أو تقول: امرأتان ، وأنت
تريد رجلاً وامرأة. هذا لا يجوز عند العقلاء ، ولا يجوز فى الواقع الذى
يحسه الناس ويحترمونه.
هذا التمهيد ضرورى جدًّا لبيان لماذا ورد فى القرآن " أن يُرضوه " دون أن يُرضوهما كما اقترح مثيرو هذه الشبهات ؟
وذلك لأنه ليس بين الله ، وبين رسوله ، ولا بين الله وبين أىِّ شىء فى الوجود تجانس من أى نوع من الأنواع.
فالله هو الفرد الصمد ، الواحد الأحد ، الذى لم يلد فليس له ولد ، ولم
يولد فليس له أم ولا أب. هو الخالق البارئ المصوِّر ، ليس له كفواً أحد ،
وليس كمثله شىء فى الوجود وغيره ، هو المخلوق المبروء المصوَّر (اسم
مفعول).
من أجل هذا ؛ فإن الله لا يُجمَع ولا يُثنىَّ. لا فى ذاته ولا مع أحدٍ من خلقه.
وعلى هذا جرى بيان القرآن المعجز ، فلم يقل كما يقترح هؤلاء الغافلون:
والله ورسوله أحق أن يُرضوهما. لأن الله ليس فرداً من جنس الأفراد الذين ينتمى إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم .
بل هو فرد لا مثيل له فى الوجود أبداً ، فلا يكون مع غيره ثانى اثنين ، أو ثالث ثلاثة ، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا.
فالخطأ كل الخطأ هو ما توهمه مثيرو هذه الشبهات. أما ما عليه النظم
القرآنى الحكيم ، فهو ليس كل الصواب فحسب ولكنه الإعجاز المفحم ، فى
أَجْلَى معارضه ، وآلق آفاقه ومَنْ أحسن من الله حديثاً.
التوحيد فى القرآن عقيدة متمكنة فى الواقع الخارجى مستقرة كل الاستقرار فى قلوب المؤمنين.
وهو ـ كذلك ـ عقيدة فى البيان القرآنى ، فلم يأت الله فى لغة القرآن إلا
واحداً أحدًا ، ليس اثنين ، وليس ثلاثة (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين
كفروا من النار ) (2) وليس ما لفت أنظار مثيرى هذه الشبهات فى الآية
المتقدمة هو الوحيد فى القرآن ، بل له نظائر عميت عنها أبصارهم وبصائرهم:
ففى الآية الثالثة من سورة التوبة نفسها ، ورد قوله تعالى:
(.. أن الله برئ من المشركين ورسوله.. ) (3).
لم يقل: إن الله ورسوله بريئان من المشركين ، لأن وصف الله بالبراءة من
المشركين ، وصف توحيدى تابع للواحد الأحد ، الذى ليس له مثيل فى كل الوجود.
ولذلك قال: " أن الله برئ من المشركين ورسوله " أى ورسوله برئ منهم ، والذى دل على هذا ، ما ذكره فى جانب الله أولاً.
كما تقول: محمد (من أُولى العزم من الرسل ، وموسى عليه السلام ، أى وموسى
من أُولى العزم من الرسل. تثبت الوصف المحذوف لموسى ، استناداً إلى ذكر
ذلك الوصف خبراً عن محمد ، عليهما الصلاة والسلام. هذا ما يفهمه العقلاء
من بليغ الكلام.
وفى سورة التوبة نفسها ـ كذلك ـ ورد قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم
الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنَّا إلى
الله راغبون ) (4).
روعيت عقيدة التوحيد فى النظم القرآنى المعجز المفحم فى ثلاثة مواطن:
الأول: " ما آتاهم الله ورسوله " حيث عطف رسوله على اسم الجلالة ، دون عود ضمير مثنى.
الثانى: " حسبنا الله " دون عطف رسوله على اسم الجلالة. لأن الحسب لا يكون إلا لله.
الثالث: " سيؤتينا الله من فضله ورسوله " دون أن يُثَنِّى فيقول: من فضلهما.
وإنما عُطِف " رسوله " بعد تمام الجملة الأولى.
ثم حذف من جملة " ورسوله " ما دل عليه الكلام السابق ، أى:
وسيؤتينا رسوله من فضله.
هذا هو التوحيد فى القرآن ، دقة وإحكام ، ومبالغة فى تنزيه الله عن
المساوى والمثيل والكفء حتى فى اللفظ توحيد نقى ، خالص ، مبرأ عن الشبهات
المعنوية ومبرأ عن الشبهات اللفظية.
ولم يرد فى القرآن الحكيم اسم يكون ثانياً لله ، ولا اسم يكون ثالثاً لله
، لا فى المعانى ، ولا فى الألفاظ وذلك هو التوحيد الخالص. رسالة كل الرسل
والأنبياء.
والخلاصة:
أن فى الآية أسلوب الإيجاز البليغ لأن معناها الذى لم يهتدوا إليه هو: "
والله أحق أن يُرضوه ورسوله أحق أن يرضوه " فحُذف " أحق أن يرضوه " من
الأول ، لدلالة الثانى " ورسوله أحق أن يرضوه " عليه.
وهذا فن بلاغى يطلقون عليه: " الاحتباك " وهو نوعان:
الأول: أن يحذف كلام من جملة أولى ويذكر ما يدل عليه فى جملة ثانية جاءت بعدها مباشرة. مثل الآية التى اتخذوها منشأ لهذه الشبهة.
والثانى: أن يحذف من جملة ثانية كلام يدل عليه ما ذكر فى الجملة التى
قبلها ، ومثاله قوله تعالى: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه
والنهار مبصراً.. ) (5).
والمعنى: والنهار مبصراً ليسعوا فيه ، فحذف لأن " ليسكنوا " دليل قوى عليه.
وقد تلحظ حذفاً من الأول ـ كذلك ـ لدلالة الثانى عليه ، وهو: مظلماً ، أى
جعلنا الليل مظلماً ، وحذف لأن ما فى الثانى ، وهو " مبصراً " دليلاً عليه.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) التوبة: 62.
(2) سورة ص: 27.
(3) التوبة: 3.
(4) سورة: 59.
(5) النمل: 86.